ولدت بإعاقة بصرية..وتحديثها بألحان مو سيقية

عندما حكى الناي قصة حياته:
ولدت بإعاقة بصرية..وتحديتها بألحان موسيقية

ياسمين خلف:
فتح كرسيه البلاستيكي الأخضر، ليجلس بالقرب من بوابة أحد المجمعات التجارية، ولم يمنعه فقد بصره من رفع الناي البني اللون، حيث بدأ يعزف مقطوعة حزينة (تشبه حياته تماما)، في محاولة من جانبه لاستعطاف المارة، وجذب انتباههم للصندوق الأحمر الذي يرافقه.
استغرق في الذكريات بينما كان يعزف لحنا عراقيا من تأليفه، تحدث إلى نفسه ‘’يا علي يا ابن عبدالرضا جاسم، يا ذا 23 ربيعا، لك من الإخوان ,12 أنت أكبرهم، وأصغرنا الياس (5 سنوات)، لن يستطيع والدك براتبه الزهيد 170 دينارا، أن يسكت كل تلك الأفواه، يكد ويتعب 12 ساعة يوميا، ليسد ولو بشكل ضئيل التزامات تتضخم يوما بعد يوم’’.
توقف عن العزف وشكر من وضع قطعا معدنية في صندوقه، ليكمل بعدها ألحانه الحزينة ‘’ظروفنا صعبة جدا، الأقساط تثقل كاهلنا، وراتب عائلنا الوحيد - والدي - ينتهي بعد يومين من صرفه، أسكن في بيت إسكان بمدينة عيسى’’.
علا صوته قليلا ‘’ولدت بإعاقة بصرية، سافرت طلبا للعلاج في السعودية وقطر والإمارات، وها أنا على الحال ذاته ، والحمد لله’’.
لكن هل تعالج ألحان الناي أحواله تلك؟
ربما كان هذا أول سؤال له عقب أن فرغ من الحديث إلى نفسه، وسرعان ما أجاب ‘’فكرة والدي الذهبية في اقتناء ناي والعزف عليه للمارة، سدت بعضا من احتياجاتي واحتياجات أسرتي الكبيرة، كان ذلك العام ,2001 ولم أستغرق وقتا للتدرب عليه فقد امتلكت الآلة يوما وفي اليوم التالي عرفت أناملي أسراره، وبدأت أعزف كل لحن يمر علي’’.
وأضاف ‘’وهبني الله تعالى عقلا وذاكرة أشبه بالكمبيوتر (يضحك بينه وبين نفسه)، فأنا قادر على عزف أي لحن بمجرد سماعه مرة واحدة فقط’’.
وتابع ‘’مواهبي كثيرة، فأنا أعزف على الأورج الذي كان حلما يراودني، وأصبح حقيقة عندما وفرت المبلغ وتمكنت من شرائه، فهو آلة تجمع عددا من الإيقاعات المصرية والعربية والأجنبية وكذلك التركية، ناهيك عن وجود (floppy disk) يسع 85 إيقاعا’’.
ويبدو أن مواهبه الموسيقية تتسع شيئا فشيئا ‘’أتقن العزف على آلة (الجربة) التي لا تختلف عن العزف على الناي، وكم أتمنى اقتناء ناي مصنوع من سلستيل ومكون من 3 قطع، سمعت أنه (عجيب) وغير متوافر في البحرين، ويباع في مصر’’.
توقف هنيهة عن العزف ليتنفس الصعداء، ويبدأ لحنا جديدا يسحر به المارة ويذكرهم بأحزانهم، أما علي فمضى مستعرضا أحوال أسرته ‘’ذهبنا للجمعيات الخيرية طلبا للمساعدة، وفي كل مرة يعدوننا بزيارتنا في المنزل للوقوف على مستوانا المعيشي، وهو ما حدث للأسف، وما نحصل عليه من وزارة التنمية الاجتماعية لا تتجاوز 65 دينارا كل شهرين’’.
وتابع ‘’احتياجات إخواني الصغار كثيرة من مأكل ومشرب وملبس ومصاريف للمدرسة، ترى هل يعلم الملك بحالي؟ بالتأكيد لو علم، ما تركني وسيساعدني لا محالة’’.
عزفت على المسرح بدينار ونصف
اقتربت طفلة هندية تضع دائرة حمراء وسط جبهتها، ابتسمت ووضعت قطعا معدنية داخل صندوقه الأحمر، وركضت إلى والدتها، ليبدأ عزف لحن فارسي للمغنية (كوكوش) وتبدأ معها أفكاره تترجم حاله ‘’لا مانع لدي من إحياء الحفلات والمناسبات، أجري زهيد لا يتجاوز 20 دينارا للساعة الواحدة، وكم أتمنى أن أشارك في الفعاليات الوطنية، وأمثل بلدي في الخارج ، أمثل كل معاق تحدى إعاقته، ولم يقف مكتوف الأيدي، ليسد رمقه ورمق أسرته الكبيرة’’.
تحجرت الدموع في مقلتيه واستمر في العزف، وتذكر بمرارة موقفا صادفه أمام أحد المجمعات التجارية ‘’عندما مرت عليه إحدى النساء، وهي تقول لزوجها (هذا كل مكان أروح أشوفه يعزف، الله يأخذ روحه) وتركتني والألم يعتصر قلبي، فأنا لم أجبر أحدا على مساعدتي، وأقدم ألحاني لها ولغيرها، في اليوم التالي مرضت ولم أذهب لعملي’’.
ومضى يقول ‘’للأسف أجد من يطرب لألحاني من دون مساعدة تنتشلني مما أنا فيه، أوهمني أحد المنتجين يوما أنه سيتبناني فنيا، من خلال المشاركة في مسرحياته، ذهبت حسب الموعد، انتظرته من 6 إلى 11 مساء، قال لي سأعطيك 5 دقائق تعزف على المسرح للجمهور، وكافأني بدينار ونصف’’.
وأثناء العزف رن هاتف بالقرب منه بألحان أنشودة حسينية، أخذ يستمع إليها، وبدأ يعزفها، إذ أنه يعشق الألحان الحسينية، ويتمنى المشاركة في مجالس العزاء، وفي الموكب الحسيني الخاص بالآلات الموسيقية التابع لمأتم العجم.
اقتربت عقارب الساعة من موعد إغلاق المجمع التجاري، توقف عن العزف، وأدخل معشوقه (الناي) في علبته، وطوى كرسيه البلاستيكي، وانتظر صديقة (المصري الجنسية) ليوصله إلى منزله كما اعتاد منذ 5 سنوات، تاركا ألحانه الحزينة، متمنيا تغيرها ولكن مع تبدل حاله وتحسن أوضاعه.